نستطرد في المقالات التالية لنلقي الضوء على علماء الأندلس في ظل دولة الموحدين وخاصة في عهد المنصور الموحدي.
والذين كان لهم دور ليس بالقليل في نماء الدولة فكريا وفلسفيا وعلميا، ومن هؤلاء ابن رشد الحفيد وابن زرقون والإمام الشاطبي صاحب متن الشاطبية.
وفي هذا المقال نلقي الضوء على حياة ابن رشد.
نشأة ابن رشد:
هو أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، كان مولده سنة (520هـ=1126م)، وقد نشأ في بيتٍ من بيوت العلم؛ فقد كان جدُّه ابن رشد
-كما قال عنه ابن بشكوال في الصلة - فقيهًا عالمًا، حافظًا للفقه، مُقَدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم.
نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرئاسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل، والوقار والحلم، والسمت الحسن والهدي الصالح[1].
نشأ ابن رشد الحفيد في هذا البيت، ومع أنه لم يُدرك جدَّه العظيم هذا -حيث تُوُفِّيَ جدُّه وعُمر الحفيد شهر واحد- إلاَّ أنه ورث العلم الغزير، خاصَّة في الفقه عن أبيه الذي تربَّى وتَعَلَّم على يد جدِّه وعن غيره من فقهاء عصره، وقيل: إنه تلقَّى علوم الفلسفة على ابن باجة[2].
مؤلفات ابن رشد:
ابن رشد .. أشهر علماء الموحدين ذكر الذهبي أن ابن رشد ما ترك الاشتغال مذ عَقَل سوى ليلتين:
ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وأنه سوَّد فيما ألَّف وقيَّد نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة، وله من التصانيف:
بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، والكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وشرح أرجوزة ابن سينا في الطب، والمقدمات في الفقه، وكتاب الحيوان، وكتاب جوامع كتب أرسطوطاليس، وشرح كتاب النفس، وكتاب في المنطق، وكتاب تلخيص الإلاهيات لنيقولاوس، وكتاب تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو، وكتاب تلخيص الاستقصات لجالينوس، ولخصَّ له كتاب المزاج، وكتاب القوى، وكتاب العلل، وكتاب التعريف، وكتاب الحميات، وكتاب حيلة البرء، ولخص كتاب السماع الطبيعي، وكتاب تهافت التهافت، وكتاب منهاج الأدلة، وكتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، وكتاب شرح القياس لأرسطو، ومقالة في العقل، ومقالة في القياس، وكتاب الفحص في أمر العقل، والفحص عن مسائل في الشفاء، ومسألة في الزمان، ومقالة فيما يعتقده المشَّاءون وما يعتقده المتكلمون في كيفية وجود العالم، ومقالة في نظر الفارابي في المنطق ونظر أرسطو، ومقالة في اتصال العقل المفارق للإنسان، ومقالة في وجود المادَّة الأولى، ومقالة في الردِّ على ابن سينا، ومقالة في المزاج، ومسائل حكمية، ومقالة في حركة الفلك، وكتاب ما خالف فيه الفارابي أرسطو[3].
أثر فلسفة ابن رشد على الغرب:
كان لابن رشد فضل كبير على روجر بيكون الفيلسوف الشهير؛ فقد استفاد هذا الأخير من مؤلفاته وحيًا، واستنزل من حكمته إلهامًا، وذكره في كتابه اللاتيني (أبوس ماجوس)، وأثنى عليه وعلى مواهبه وسعة علمه.
فقال: «إنه فيلسوف متين متعمق، صحَّح كثيرًا من أغلاط الفكر الإنساني، وأضاف إلى ثمرات العقول ثروة لا يُستغنى عنها بسواها، وأدرك كثيرًا مما لم يكن قبله معلومًا لأحد، وأزال الغموض عن كثير من الكتب التي تناولها ببحثه».
وأمَّا توماس الأكويني الذي أصبح قديسًا؛ لأنه كان أعظم لاهوتي في كنائس الغرب، وأكبر فلاسفة القرون الوسطى، فقد سطع نجمه وعلا بكتابه إجمال اللاهوت (سوماتيولوجيا)، وقد ذكر توماس أسباب اتصاله بالأفكار الدنيوية، ودلَّ على أن الفضل في وضع كتابه شكلاً ومادة يعود إلى طريقة ابن رشد وفلسفته.
ابن رشد .. أشهر علماء الموحدينعلى أن فيلسوف قرطبة - ابن رشد - لم يسلم من ألسنة رجال الكنيسة؛ فقد ذَمُّوه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن؛ فقد قال عنه بترارك: «إنه ذلك الكلب الكلِب الذي هاجه غيظ ممقوت؛ فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية». وأما دانتي فقد جعله في هدوء ووقار يتبوَّأ مقعده في الجحيم جزاء له على كفره واعتزاله[4].
ومن ثناء العلماء عليه ما نقله الذهبي عن ابن أبي أصيبعة من قوله: كان أوحد في الفقه والخلاف، وبرع في الطب[5]، وقول الذهبي نفسه: «وكان يُفزع إلى فتياه في الطب، كما يُفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي[6].
محنة ابن رشد:
كان الخليفة أبو يعقوب يستعين بابن رشد إذا احتاج الأمر للقيام بمهام رسمية عديدة، ولأجلها طاف في رحلات متتابعة في مختلف أصقاع المغرب؛ فتنقَّل بين مراكش وإشبيلية وقرطبة، ثم دعاه أبو يعقوب في سنة (578هـ) إلى مراكش فجعله طبيبه الخاص.
ثم ولاَّه منصب القضاء في قرطبة، فلما مات أبو يعقوب يوسف وخلفه ابنه المنصور الموحدي زادت مكانة ابن رشد في عهده مكنة ورفعة، وقرَّبه الأمير إليه، ولكن كاد له بعض المقرَّبين من الأمير.
فأمر الأمير بنفيه إلى قرية كانت لليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد مَنْ يُخَالِف أمره بالعقوبة[7].
وقد مات ابن رشد محبوسًا في داره بمراكش، وذلك سنة (595هـ=1198م)[8].
[1] ابن بشكوال: الصلة، 3/839 1278.
[2] رحاب عكاوي: ابن رشد، ص9.
[3] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308، 309.
[4] محمد لطفي جمعة: تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، ص223.
[5] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308، وانظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/319.
[6] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308.
[7] رحاب عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام، 2/249.
[8] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/309.
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع قصة الإسلام